غزة 22-4-2025 وفا- محمد دهمان
في أقصى شمال غزة، حيث لا تزال رائحة الدمار تفوح من البيوت المهدّمة، تجلس شيماء عز (35 عاما) في غرفة ليست لها. الغرفة التي كانت تحتوي على ذكرياتها، أثاثها، خزانتها، وحتى ثلاجة طعام أطفالها، دُمّرت تمامًا. ومنذ ذلك اليوم، تعيش شيماء مع زوجها وأطفالها الثلاثة في غرفة ضيّقة تابعة لصهرها، دون خصوصية أو أمان، في انتظار معجزة.
"كل حياتي كانت في الغرفة.. راح كل شيء"، تقول شيماء بنبرة تختلط فيها المرارة بالصبر. وتتابع: أنا خريجة سكرتارية طبية، لكني اليوم مجرد ست بيت. مش لأني ما بدي أشتغل، بس لأنه ما في فرص، وزوجي محمد كمان قاعد بلا شغل. إحنا تعبنا.. والعيشة صارت قهر على قهر".
لكن ما جعل قلب شيماء ينكسر أكثر، ليس فقدان البيت، ولا حتى انقطاع المساعدات، بل لحظة بلوغ طفلتها ذات السنوات العشر، في خضم النزوح.
صدمة الدورة الأولى في الخيام
"كنا نازحين في رفح، ما في خصوصية، ما في نظافة، وما في أي شيء ممكن يخلي البنت تحس بالأمان. فجأة قالتلي: ماما، في دم. انصدمت. لسه طفلة. بس اجتها الدورة الشهرية. بنتي أبلغت، وهي عمرها 10 سنين".
تحاول شيماء أن تخفي حزنها حين تتحدث عن تلك اللحظة: ما كان عندي لا فوط صحية ولا منظفات. اضطريت أحط الها شرايط، وتعبت كثير بالبداية. حسيت إني عاجزة. مع الوقت جبنالها فوط بس كانت غالية، وما كان في شغل، ولا مساعدات.
ولم تتوقف معاناة الطفلة عند الجانب الصحي فقط، بل امتدّت إلى أبسط تفاصيل الكرامة الشخصية: "ما كان عندها حتى غيار داخلي كافي. وأنا ما قدرت أشتريلها. جيراننا في رفح أعطونا شوية ملابس. بنتي كانت بتطلب ملابس محتشمة لأنها كبرت، بس أنا ما قدرت. اضطريت ألبسها لبس ابن أخويا لأنه مستور".
محمد عز (39 عامًا)، رب الأسرة، يتحدث بصوت منخفض لكنه مثقل بالهموم: "ما بشتغل من فترة طويلة. الحرب ما خلت إلنا إشي. كل حياتنا كانت بغرفة واحدة.. لما راحت، راح كل شيء. بنتي كبرت وإحنا مش قادرين نوفر لها أبسط احتياجاتها. حتى حليب البنت الصغيرة ما بنقدر نجيبه".
ويضيف: الرجولة في غزة صارت إنك توفر لقمة خبز لأولادك. وأنا عاجز. كل يوم بشوف بنتي الصغيرة بتبكي من الجوع.. وما بقدر أعمل شيء".
أوضاع مأساوية وصمت قاتل
تعيش العائلة اليوم على المساعدات الشحيحة إن وُجدت، وليس هناك مصدر دخل ثابت. الطفلة الرضيعة، التي لم تتجاوز ستة أشهر، تلبس من ملابس شقيقها القديمة.
تقول شيماء: نفسي ألبسها فستان زهر.. بس وين؟ حتى الأواعي صارت حلم. بنتي الكبيرة بتلبس من بقايا غرفتي اللي ما راحت بالحرب، يعني الأواعي إلي ظلوا بين الركام".
البلوغ المبكر في ظل الحرب والنزوح.. رأي طبيب
الدكتور محمود الددح، أخصائي النساء والولادة في حديث خاص لـ"وفا" أوضح أن البلوغ المبكر عند البنات قد يتأثر بعدة عوامل، من بينها الظروف البيئية والنفسية القاسية. ويقول: "الحروب والنزوح والتوتر المزمن كلها تؤثر في الجهاز العصبي والهرموني للطفل. الخوف المستمر، ونقص الغذاء، وعدم الاستقرار النفسي قد تؤدي إلى خلل في الغدة النخامية المسؤولة عن إفراز الهرمونات الجنسية، وبالتالي التبكير في سن البلوغ".
ويضيف: الطفلة تواجه تغيرات جسدية لا تفهمها جيدًا، وفي الوقت نفسه تتعرض لمشاهد الحرب أو أصوات الانفجارات، أو فقدان الأحبة، ما يولّد حالة من القلق المزدوج وضعف الثقة بالنفس، فتبدأ بالشعور بأنها مختلفة عن غيرها، خصوصًا إذا لم تكن هناك توعية، أو دعم نفسي".
ويتابع: جسدها يتغير بسرعة، في حين أنها لا تزال نفسياً طفلة، وهذا التناقض يصعب عليها فهمه أو قبوله، فالحالة التي مرت بها الطفلة مؤلمة من الناحية النفسية، وقد تظهر مشكلات مثل: الاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، واضطرابات الأكل، أو حتى التبلد العاطفي.
ويكمل: نتيجة لصعوبة الوصول إلى الدعم، أو العلاج في مناطق النزاع، تكون الخدمات الصحية والنفسية غالباً غير متوفرة، ما يحرم الطفلة من الرعاية الضرورية.
"لأنه في العادة، البلوغ المبكر يحتاج إلى بيئة داعمة وتثقيف صحي وأسري، لكن في ظل انعدام الخصوصية، ونقص النظافة، وغياب القدرة على تلبية أبسط المتطلبات، مثل: الفوط الصحية، تتحول تجربة البلوغ إلى أزمة حقيقية". يوضح الطبيب الددح.
ويؤكد أن التعامل الخاطئ مع هذه المرحلة الحساسة قد يترك أثرًا نفسيًا طويل الأمد في الفتاة، معتبراً أن دعم الأمهات في مثل هذه الظروف ضرورة قصوى.
"مش ذنبنا نحلم بالأقل"
تختم شيماء حديثها بصوت متماسك، لكن كل كلمة فيه تحمل وجعًا دفينًا: "نفسي أعيش حياة بسيطة. مش لازم بيت كبير.. بس غرفة إلنا. سرير ألعب بنتي عليه، دولاب أخبّي فيه أواعيها.. ونشوفها بتكبر وهي مرتاحة. مش ذنبها إنها انولدت بغزة".
بين الركام، وتحت سقف ليس لهم، تكافح شيماء كباقي الأمهات في قطاع غزة لتمنح أطفالها حياة فيها شيء من الكرامة، حتى لو كانت على هيئة فستان زهر صغير، أو فوطة صحية لطفلة تكبر قبل أوانها.
ـــــ
/س.ك