رام الله 22-4-2025 وفا- عماد فريج
على مدار حبريته التي امتدت 12 عاما، كان البابا فرنسيس صديقا مخلصا للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، حتى الساعات الأخيرة في حياته التي جدد فيها الدعوة إلى وقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة التي "تولّد الموت والدمار" وتسبب وضعا إنسانيا "مروعا ومشينا"، وتقديم المساعدة للشعب الفلسطيني "الذي يتضور جوعا" في القطاع و"يتوق إلى مستقبل يسوده السلام".
وساهم البابا الراحل، في توطيد العلاقات التاريخية بين فلسطين والفاتيكان، بدءا من الاعتراف بدولة فلسطين، وتوقيع اتفاق شامل بين دولة فلسطين والكرسي الرسولي، وصولا إلى مواقفه المبدئية التي عبر عنها دوما بشأن القضية الفلسطينية ودعوته إلى السلام العادل المستند إلى حل الدولتين وقرارات الشرعية الدولية.
الحج إلى الأرض المقدسة
اعتلى البابا فرنسيس الكرسي الرسولي في آذار/ مارس 2013، بعد إعلان سلفه البابا بنديكتوس السادس عشر، تنحيه عن حبريته طوعا.
ومن 24 إلى 26 أيار/مايو 2014، قام البابا فرنسيس بحجٍّ إلى الأرض المقدسة، على خطى أسلافه، حيث زار أبرز الأماكن المقدسة في الأردن وبيت لحم والقدس.
وكان في استقباله في مقر الرئاسة في مدينة بيت لحم، رئيس دولة فلسطين محمود عباس، قبل أن يترأس قداسا في ساحة كنيسة المهد، ويلتقي عددا من الأطفال في مخيم عايدة للاجئين.
وفي لفتة تعكس تضامنه مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، خرج البابا الراحل عن البروتوكول وخط السير المحدد في بيت لحم، وترجل من مركبته عند أحد مقاطع جدار الفصل والتوسع العنصري الذي يفصل بيت لحم عن القدس، ووضع يده على الجدار ورفع الصلاة من أجل السلام، مؤكدا أن "تشييد الجدران واحتلال الأراضي لن يحل الصراع في المنطقة".
وعقب زيارته لبيت لحم، قال البابا إن "شجاعة السلام ترتكز على إقرار الجميع بحق الدولتين في الوجود، وفي التنعم بالسلام والأمن ضمن حدود معترف بها دولياً". وأضاف أنه "آن الأوان لإنهاء هذا الوضع، الذي لم يعد مقبولا،ً وهذا من أجل خير الجميع".
وأصدر البريد الفلسطيني طوابع تحمل صور البابا والرئيس، تخليدا للزيارة التاريخية لقداسته إلى فلسطين.
وتلبية لدعوة البابا فرنسيس، شارك الرئيس محمود عباس في "لقاء من أجل السلام" مع الرئيس الإسرائيلي الراحل شمعون بيرس في حدائق الفاتيكان، في الثامن من حزيران/ يونيو 2014.
وقال البابا الراحل حينها إن "صنع السلام يتطلب شجاعة، أكثر بكثير من خوض الحروب. إنه يتطلب الشجاعة لقول نعم للقاء ولا للعداء؛ نعم لاحترام الاتفاقات ولا لأعمال الاستفزاز؛ نعم للصدق ولا للمكر. كل هذا يتطلب شجاعة، ويتطلب قوة وثباتًا."
وفي 7 تموز/ يوليو 2018، ترأس البابا فرنسيس لقاءً مسكونيا من أجل السلام في الشرق الأوسط، في مدينة باري الإيطالية، دعا خلاله إلى احترام الوضع الراهن لمدينة القدس ودعم حل الدولتين لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
وقال في خطاب له خلال اللقاء إن "الحفاظ على الهدنة ببناء الجدران واستعراض القوة لن يؤدي إلى السلام... لكن وحدها الرغبة الملموسة في الإنصات وبدء الحوار" هي التي ستأتي به.
وأضاف: "فلنضع حدا لاستفادة قلة من معاناة الكثيرين. لا لاحتلال المزيد من الأراضي والتفريق بين الناس".
الاعتراف بدولة فلسطين
ولاحقا للاتفاق الأساسي بين منظمة التحرير الفلسطينية والكرسي الرسولي الموقّع في 15 شباط/ فبراير 2000، وقّعت دولة فلسطين والكرسي الرسولي في 26 حزيران/ يونيو 2015، اتفاقا شاملا للاعتراف المتبادل في حاضرة الفاتيكان، في أول معاهدة ثنائية رسمية بين الجانبين، عقب اعتراف الفاتيكان رسميا بدولة فلسطين في 13 أيار/ مايو 2015.
وأشار الاتفاق إلى العلاقات العميقة التاريخية والثقافية، بين الكرسي الرسولي والشعب الفلسطيني في الأرض المقدسة، وأكد من جديد حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، وهي حق تقرير المصير، والحق في الحرية والأمن والكرامة في دولة مستقلة له، والتأييد الكامل لتسوية عادلة وشاملة وسلمية للقضية الفلسطينية.
ونص الاتفاق على أنه "اعترافا بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، بما فيه حقه في دولة مستقلة ذات سيادة، فإن الكرسي الرسولي يعترف بدولة فلسطين، ويرحب بقبولها في الأمم المتحدة بصفة مراقب غير عضو".
وأكد الطرفان التزامهما بالشروط المبينة في مقدمة الاتفاق الأساسي بين المنظمة والكرسي الرسولي الذي ينص على أن: "حلاً عادلاً لقضية القدس على أساس القرارات الدولية هو شرط أساسي من أجل سلام عادل ودائم، وأن القرارات والإجراءات الأحادية الجانب التي من شأنها تغيير طابع مدينة القدس ومركزها هي غير مقبولة أخلاقياً وقانونياً".
وفي 14 كانون الثاني/ يناير 2017، افتتح الرئيس محمود عباس سفارة دولة فلسطين لدى حاضرة الفاتيكان ورفع العلم الفلسطيني فوق مبنى السفارة. كما افتتح سيادته في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2024 المبنى الجديد للسفارة، مجددا دعوته للدول التي لم تعترف بعد بدولة فلسطين إلى القيام بذلك، والوقوف عند مسؤولياتها والإقرار بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة بعاصمتها القدس الشرقية، على أساس حل الدولتين، وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة.
وفي عام 2017، وقّعت فلسطين والفاتيكان مذكرة تفاهم لإنشاء مجموعة عمل دائمة للحوار بين المجلس البابوي للحوار ما بين الأديان مع المسؤولين الدينيين والمفكرين الفلسطينيين.
وعقدت المجموعة مؤتمرا مشتركا في آذار/ مارس 2023 في العاصمة الإيطالية روما تحت عنوان: "مدينة القدس: قيمتها الروحية ومكانتها الخاصة"، قُدمت خلاله أوراق بحثية من الجانبين ضمن عدة محاور تُظهر المكانة الروحية والتاريخية والثقافية للشعب الفلسطيني بمسيحييه ومسلميه، والمكانة الروحية العالمية للقدس.
والتقى الوفد الفلسطيني للحوار مع الفاتيكان، البابا فرنسيس، حيث سلمه رئيس الوفد، قاضي قضاة فلسطين، مستشار الرئيس للشؤون الدينية والعلاقات الإسلامية، رسالة خطية من الرئيس محمود عباس، مؤكدًا اعتزاز الرئيس والشعب الفلسطيني بالعلاقات المتميزة مع الفاتيكان، وإيمانهم بقدرة الفاتيكان على التأثير الإيجابي في حماية إرث الأنبياء في القدس وعموم الأرض المقدسة.
وأكد المجتمعون خلال جلسات الحوار أن "القدس هي المركز الروحي للديانات السماوية، وهي مهد الحضارة المسيحية والإسلامية"، و"وجوب ضمان حرية العبادة وحرية الوصول إلى الأماكن المقدسة"، و"وجوب الحفاظ على المدينة المقدسة في مواجهة السياسات الأحادية التي تمس بهوية المدينة وطابعها الحضاري".
إعلان قداسة راهبتين فلسطينيتين
وفي 17 أيار/ مايو 2015، أعلن البابا الراحل، قداسة الراهبتين الفلسطينيتين الأم ماري ألفونسين غطّاس مؤسسة راهبات الوردية، والأخت مريم بواردي مؤسسة دير الكرمل في بيت لحم، خلال قداس حبري ترأسه في ساحة القديس بطرس في الفاتيكان، بحضور فلسطيني رسمي وشعبي حاشد، على رأسه الرئيس محمود عباس.
وأكد الرئيس عباس في كلمة له "أهمية تزامن إعلان تقديس الراهبتين الفلسطينيتين من البابا فرنسيس مع ذكرى نكبة شعبنا لعام 1948، الأمر الذي يعزز وحدتنا ويؤكد أنّنا شعب واحد نسعى معا لبناء فلسطين المستقلة والحرة وذات السيادة على قواعد المواطنة المتساوية وعلى الأسس الروحية والإنسانية السامية".
وأضاف سيادته: "هاتان القديستان من بنات شعبنا هما سند لنا، صوت فريد وقوي وصارخ يقول لنا إن قوة الروح هي أيضا قوة فينا ويجب أن نسير بها إلى الدولة التي نسعى إليها وعاصمتها القدس".
علاقة وطيدة بين الرئيس والبابا
عقد رئيس دولة فلسطين محمود عباس، العديد من اللقاءات مع البابا فرنسيس في حاضرة الفاتيكان، إلى جانب الاتصالات الهاتفية والبرقيات المتبادلة في المناسبات المختلفة.
وكان آخر تلك الاجتماعات بين الرئيس والبابا في 12 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، حيث شكر سيادته البابا على مواقفه الداعمة لتحقيق السلام العادل في فلسطين على أساس حل الدولتين ووقف إطلاق النار في قطاع غزة.
وخلال لقائهما في 17 أيار/ مايو 2015، على هامش إعلان قداسة الراهبتين الفلسطينيتين، وصف البابا فرنسيس الرئيس محمود عباس بأنه "ملاك السلام"، ومنحه وساما يمثل "ملاك السلام"، مشيدا بجهود سيادته من أجل تحقيق السلام العادل وفقا لقرارات الشرعية الدولية.
الدعوة إلى وقف الحرب
وخلال حرب الإبادة والعدوان الإسرائيلي المتواصل على فلسطين منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، دعا البابا الراحل فرنسيس في العديد من المناسبات واللقاءات، إلى وقف الحرب والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وأن تتمتع المستشفيات والمدارس وأماكن العبادة بكل الحماية اللازمة.
وحرص البابا فرنسيس على التواصل عدة مرات في الأسبوع عبر تقنية الاتصال المرئي مع راعي كنيسة العائلة المقدسة للاتين في غزة الأب جبرائيل رومانيلي ومساعده الأب يوسف أسعد، والراهبات وأبناء الكنيسة الذين لجأوا إليها منذ بدء الحرب، للاطمئنان عليهم وعلى أبناء شعبنا كافة في القطاع، وتعزية قلوبهم في ظل المعاناة التي يعيشونها.
وفي أبرز مواقفه وتصريحاته بشأن حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، قال البابا فرنسيس فور مغادرته مستشفى غيميلي في روما في 23 آذار/ مارس الماضي، بعد تلقي العلاج على مدار خمسة أسابيع إثر معاناة مع التهاب رئوي، "يحزنني استئناف القصف الإسرائيلي العنيف على قطاع غزة، والذي يؤدي إلى سقوط العديد من القتلى والجرحى. إنني أطالب بوقف فوري لإطلاق النار، وبالتحلي بالشجاعة لاستئناف الحوار، حتى يتم إطلاق سراح جميع الرهائن، والتوصل إلى وقف نهائي لإطلاق النار"، مشددا على خطورة الوضع الإنساني في قطاع غزة.
وفي كانون الثاني/ يناير الماضي، قال البابا فرنسيس في لقاء تلفزيوني، إن الحل الوحيد للصراع الإسرائيلي الفلسطيني يتمثل في نموذج "شعبين ودولتين".
وأضاف أن حل الدولتين يمثل "الخيار الوحيد الممكن"، قائلاً: "هناك إمكانية، وأعتقد أنها الحل الوحيد".
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، اقترح البابا فرنسيس أن "يدرس المجتمع الدولي ما إذا كانت العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة تشكل إبادة جماعية للشعب الفلسطيني".
وقال في كتاب نقلت مقتطفاته صحيفة "لا ستامبا" الإيطالية اليومية، إن بعض الخبراء الدوليين يقولون "إن ما يحدث في غزة فيه خصائص الإبادة الجماعية"، مضيفا: "يجب أن نحقق بعناية لتقييم ما إذا كان هذا يتناسب مع التعريف الفني (للإبادة الجماعية) الذي صاغه خبراء القانون والمنظمات الدولية".
وفي أيلول/ سبتمبر الماضي، انتقد قتل الأطفال الفلسطينيين في غارات الاحتلال الإسرائيلي على غزة.
وكان الرئيس محمود عباس قد عزى بوفاة البابا فرنسيس وقرر تنكيس الأعلام على المقرات والمؤسسات الرسمية في دولة فلسطين لمدة ثلاثة أيام، وقال سيادته: "فقدنا اليوم صديقاً مخلصاً للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، ومدافعاً قوياً عن قيم السلام والمحبة والإيمان في العالم أجمع، وصديقاً حقيقياً للسلام والعدالة".
وأضاف الرئيس، نقدم تعازينا الحارة إلى حاضرة الفاتيكان، وإلى المؤمنين في العالم أجمع بهذه الخسارة الكبيرة التي تمثلها وفاة البابا فرنسيس، الذي كان رمزا للتسامح والمحبة والأخوة.
ــــ