غزة 5-5-2025 وفا– محمد دهمان
يشهد قطاع غزة واحدة من أكبر أزمات اليُتم في التاريخ الحديث، في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي الذي خلّف آثارًا إنسانية مدمّرة على الأطفال. ووفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، يُشكّل الأطفال نحو 43% من إجمالي عدد سكان فلسطين، ما يُسلّط الضوء على حجم التأثير الذي طال هذه الفئة الهشّة.
تشير التقديرات إلى أن عدد الأطفال الذين فقدوا أحد والديهم أو كليهما في قطاع غزة بلغ نحو 39,384 طفلًا، وذلك بعد مرور أكثر من 530 يومًا على العدوان الإسرائيلي. ومن بين هؤلاء، يُقدّر أن حوالي 17,000 طفل قد حُرموا من كلا الوالدين، ليجدوا أنفسهم في مواجهة مباشرة مع حياة قاسية تفتقر إلى الحماية والرعاية والدعم.
كما أظهرت بيانات وزارة الصحة الفلسطينية أن 36,569 طفلًا فقدوا أحد والديهم، فيما بلغ عدد الأطفال الذين فقدوا كليهما نحو 1,918 طفلًا، في دلالة واضحة على عمق المأساة الإنسانية التي يعيشها هؤلاء الصغار.
ويعيش معظم هؤلاء الأطفال في ظروف بالغة الصعوبة، داخل خيام ممزقة أو منازل مدمرة، وسط غياب شبه كامل لخدمات الرعاية الاجتماعية والدعم النفسي، الأمر الذي يُنذر بتداعيات خطيرة على حاضرهم ومستقبلهم في ظل هذا الواقع المأساوي.
فراس.. الناجي الوحيد
فراس طارق عطا الله (15 عامًا)، أحد الأطفال الذين نجوا من الموت واحتضنهم أحد المراكز الإيوائية، لا يحمل في ذاكرته سوى وجع الفقد. يروي بصوت خافت يخبئ وراءه جبالًا من الألم:
"كنا نازحين في بيت أقارب والدي بشارع الجلاء. صباحًا، كنا نُجهّز مائدة الإفطار، وفجأة اشتعل كل شيء حولنا… نزلنا إلى الطابق السفلي، وسمعت صوت أختي الصغيرة وهي تبكي، ثم اختفى الصوت… بعد المغرب قررنا الهروب، لكن الرصاص كان أسرع. فقدت أمي وأبي وإخوتي وعمتي وأبناء خالي… عشرة أشخاص استُشهدوا، وأنا الوحيد الذي نجا".
يعاني فراس ورما في الغدة ويتطلّب علاجًا غير متوفّر في غزة بسبب الحصار، لكنه يتلقى دعمًا طبيًا ونفسيًا قدر الإمكان في المؤسسة التي يقيم فيها، ويقول:
"في المركز عندي سرير لحالي، وبحسّ بشوية أمان. بلعب وبضحك أحيانًا، بس لما بنام، بسمع صوت الصواريخ في بالي… بحسّ إني مش لحالي".
أم تعاني وطفلان جريحان
منى زهير الغرة، والدة الطفلين عبيدة ومحمد، وجدت في إحدى المؤسسات الخيرية ملاذًا بعد إصابة طفليها خلال القصف. تقول:
"عبيدة عمره 13 سنة، أصيب بحزام ناري وفقد عينه اليسرى، ولديه كسر في الجمجمة… وأخوه محمد لديه كسر في اليد ونزيف داخلي في الدماغ. المركز كان يستقبلهم قبل الحرب، وبعد إصاباتهم، لم يتركهم".
منى، التي تعاني شللًا في إحدى ساقيها، تؤكد أن المؤسسة وفّرت لهم المأوى والمساعدات والدعم النفسي، وتضيف بألم:
"ابني عبيدة ما عاد يطيق يطلع من الغرفة… نفسيته بتتعب، وأنا كأم عاجزة قدّام وجعه… أناشد كل من يستطيع مساعدتنا أن يساعده في السفر والعلاج".
ومضات أمل رغم الدمار
وسط هذا المشهد القاتم، تواصل مؤسسات قليلة تقديم ما تستطيع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ومن بين أبرز هذه المؤسسات، يبرز معهد الأمل للأيتام مثالا على الصمود الإنساني، رغم استهدافه بالقصف وتدمير أجزاء من مقره.
تأسس المعهد عام 1949، ويقدّم خدمات متكاملة تشمل الإيواء والتعليم والرعاية الصحية والنفسية. وكان يخدم قبل الحرب أكثر من 14,000 يتيم ضمن 3,500 أسرة، واليوم يواجه تحدي رعاية أكثر من 24,000 يتيم حديث الفقد.
ورغم شح الموارد، احتضن المعهد أكثر من 180 طفلًا يتيمًا وأمهاتهم، ونقلهم إلى مقر مؤقت، مع مواصلة تقديم الدعم النفسي والاجتماعي. ويقول مسؤول برنامج الحماية ورئيس قسم الإيواء فهد المدهون:
"نحن نحاول أن نعيد إلى الأطفال شعورهم بالأمان الذي فقدوه، من خلال أنشطة تربوية وجلسات حديث ورسم ولعب… وأحيانًا يكفيهم حضن وابتسامة".
ويتابع: "لكننا نحن أيضًا بشر، نخاف ونتألم. نحاول أن نتماسك، لأننا نعلم أن الطفل إذا رأى من يعتمد عليه خائفًا، سيفقد آخر ما تبقّى له من طمأنينة".
مساعدات رمضانية ومدرسة من رماد الحرب
وفي حديث مع "وفا"، قال رئيس قسم العلاقات العامة والإعلام في المعهد عبد القادر حسونة:
"خلال شهر رمضان الماضي، قدّم المعهد مساعدات بقيمة 596,029 دولارًا، شملت كفالات وكسوة العيد وسلالًا غذائية ومساعدات نقدية وآلاف الوجبات. كما أطلق مشروع ‘مدرسة الأمل التعليمية’ المصنوعة من الخشب، لتخدم أكثر من 1,000 يتيم انقطعوا عن الدراسة منذ عامين".
ويختتم حسونة حديثه بالقول:
"الواقع الإنساني في غزة كارثي بكل المقاييس، لكن لا خيار أمامنا سوى الاستمرار والصمود. نؤمن بأن كل يتيم هو أمانة، ومسؤوليتنا أن نحميه ونرعاه بكل ما نستطيع".
وقد أودت الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في القطاع، منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بحياة أكثر من 170 ألف مواطن بين شهيد وجريح، أغلبيتهم من الأطفال والنساء، كما أُعلن فقدان أكثر من 11 ألف مواطن.
ـــ
م.د/ ف.ع