طولكرم 15-5-2021-وفا- هدى حبايب
تراوح قرية وادي الحوارث مكانها في ذاكرة المسنة يسرى سروجي، إحدى سكان مخيم طولكرم شرق المدينة حتى هذه الأيام، رغم مرور 73 عاما على تركها قسرا.
ووادي الحوارث هي قرية فلسطينية كانت تقع على بعد 16.5 كم شمال غرب طولكرم، ويبلغ مجموع سكانها 1330 نسمة، ينسب اسمه إلى قبيلة الحارثية التي نزلت فيه أواخر القرن السابع عشر الميلادي وأقامت في الضفة الجنوبية لنهر اسكندرونة.
وتعرضت أراضي القرية لاعتداءات من قبل الحركة الصهيونية قبل عام 1948، بدأت عام 1929، عندما حاولت سرقة الأراضي من المزارعين، بطرق ملتوية، ورفض أصحابها ترك أراضيهم، فاستعانت بحكومة الانتداب البريطاني التي أرسلت جنودها فاقتلعوا الخيام وهدموا الأكواخ وأجلوا زهاء 1200 فلسطيني مع مواشيهم بالقوة، ووصفها الفلسطينيون بالنكبة الأولى.
وفي العام 1933 أنشأ اليهود مستعمرتي "مخمورت" و"كفار فيتكن" و"كيبوتس معفروت"، وعام 1934 أقاموا مستعمرة "كفار هروئي"، وفي العام 1947 بنيت مستعمرة "غيئولي تيمان"، وقد أطلقت سلطات الاحتلال على منطقة وادي الحوارث اسم "عيمق حيفر" أي وادي الحفرة، و"سهل شمرون".
تواصلت النكبات على هذه القرية الزراعية، حتى جاء عام 1948، عندما نفذت العصابات الصهيونية جرائمها بحق الشعب الفلسطيني بهدف ترويعهم وإجبارهم على الخروج من قراهم ومنازلهم، فقتلت وجرحت وهدمت وشردت مرة أخرى.
ويحيي الشعب الفلسطيني اليوم، الذكرى الثالثة والسبعين لـ"النكبة" التي وقعت عام 1948، وهو المصطلح الذي أطلقه الفلسطينيون، بعد أن أقدم الاحتلال الإسرائيلي على تدمير قراهم ومنازلهم وتهجير أكثر من 800 ألف فلسطيني من مدنهم وقراهم في فلسطين التاريخية، من أصل 1.4 مليون فلسطيني كانوا يقيمون في 1300 مدينة وقرية فلسطينية.
ومخيم طولكرم هو من ضمن أكبر مخيمات اللاجئين والذي أقامته وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين عام 1950، ويبلغ عدد سكانه حسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني العام الماضي 2020، "10387" نسمة.
وتعود أصول اللاجئين في مخيم طولكرم حسب أقوال سكان فيه، لعدة بلدات ومدن بأراضي الـ48، منها: حيفا، ويافا، ومسكة، وصبارين، وسيدنا علي، وقاقون، وقيسارية، والشيخ مونس، ووادي الحوارث، وأم خالد، وغالبيتها تم تدميرها بالكامل على يد الاحتلال وبناء مستوطنات مكانها.
وتأتي هذه الذكرى بالتزامن مع معاناة حي الشيخ جراح في القدس، والذي يسكنه فلسطينيون هجروا من منازلهم أبان النكبة، ليعيد الاحتلال مأساة التهجير لهذه الحي المقدسي، وسعيه إلى تهجير أكثر من 550 فلسطينيا ينتمون لـ28 عائلة مهددة بإخلاء منازلها من أجل بناء مئات الوحدات الاستيطانية وجلب مستوطنين متطرفين إليها، وإنهاء الوجود الفلسطيني من الحي بأكمله، ليصبح يهوديا خالصا، في ظل رفض سكانه الرحيل عنه، ويناضلون كل يوم من اجل البقاء على الأرض .
وتنظر سروجي المكناة بـــ"أم صالح" للنكبة بأنها حدث مؤلم في تاريخ الشعب الفلسطيني، تستذكرها كل لحظة في كل يوم، تعيش مع ذكرياتها التي روتها وترويها لأبنائها وأحفادها ومن يزورها في بيتها المتواضع في أحد أزقة المخيم، وهي تشعر بالألم والقهر الذي تكبدونه طوال هذه السنوات تارة بسبب التهجير، وبأمل العودة عندما تستذكر الحياة البسيطة والجميلة والسعادة التي كانوا يعيشونها على أراضيهم وفي بيوتهم التي هجروا منها.
ولم تنس أم صالح كيف احتل اليهود قريتها وكان عمرها 25 عاما ومتزوجة ولديها 4 أطفال صغار، وتقول: "اقتحم اليهود القرية في الليل ونحن نيام، وأطلقوا الرصاص على المنازل والشجر والحجر، وبثوا الخوف والفزع في نفوس السكان من أطفال ونساء وشيوخ ورجال، مما اضطرنا إلى ترك منازلنا حفاظا على حياتنا من جرائم العصابات الصهيونية ومنهم "الهاغاناة"، متنقلين من منطقة إلى أخرى بظروف صعبة محفوفة بالمخاطر، من دون مأوى، مرورا بالجبال والأودية حتى وصلنا إلى قرية ذنابة ومن ثم اكتابا في طولكرم، قبل أن يلقي بنا المطاف في المخيم".
وتضيف، ونحن في طريق الخروج من القرية، وصلنا خبر استشهاد والدتي أم عبد الله سروجي وخمسة من النساء والرجال كانوا يستقلون سيارة خارجين من القرية، بعد أن أطلقت عليهم العصابات الصهيونية وابلا من الرصاص في إحدى البيارات، كما أصيبت عمتي ريا السروجي واستشهدت ابنتها، في قصف الطائرات.
وتقول: "في المخيم وزعت وكالة الغوث علينا الشوادر، وعشنا في الخيم، وبعد عامين قمنا ببناء البيوت، ووصفت حياة المخيم حينها بالمعاناة والبؤس حيث المياه تتسرب داخل الخيم شتاء، عدا عن المعاناة التي كانوا يتكبدونها في إحضار الماء من بئر في شويكة مشيا على الأقدام".
97 عاما هي عمر المسنة أم صالح، لم تمح من ذاكرتها طبيعة الحياة في مسقط رأسها وادي الحوارث قبل احتلالها وتدمير منازلها، ببساطة ذاكرتها في مثل هذا العمر وكأنها ماثلة أمامها.
وتصف قريتها قائلة: "وادي الحوارث يقع بين يافا وحيفا قريبة من الخضيرة وقرية ام خالد التي سماها اليهود نتانيا، كانت تتبع لمدينة طولكرم لوائيا، فجميع الأوراق والمستندات ومنها عقود الزواج كانت تتم في طولكرم، ومنها عقد زواجي الذي أحتفظ به حتى الآن والذي كتبه الشيخ مصطفى خريوش".
القرية زراعية مشهورة بالبصات، وهي أراض خصبة ذات ينابيع مياه غزيرة صافية تقع على ساحل البحر المتوسط، مما جعل منها عماد الاقتصاد، تقوم الزراعة فيها على مختلف الأصناف والأنواع صيفا وشتاء، منها القمح والشعير والترمس والفول والذرة البيضاء والملوخية، والملفوف والبطاطا وقصب السكر، والقرع الأصفر والشمام والبطيخ الذي كانت حبته كبيرة تزن عدة كيلوغرامات وبطعم حلو المذاق وتصفه بأنها لم تتذوق مثل حلاوته حتى اليوم.
وتضيف: "كان الناس والتجار خاصة من يافا كانوا يحضرون إلى القرية لشراء المنتجات الزراعية، إضافة إلى شراء الدواب من بقر وغنم سمراء وخرفان بيضاء وجواميس، كنا ننتج السمنة، واللبن ونخلطه مع الفلفل والثوم والزيت والملح، كنا نطبخ كل شيء باعتمادنا على منتجات الأرض، ونحضر السمك من البحر"، مستذكرة خضرة الشتاء من خبيزة وسلك ومرار وصيادية خضرا، العلك، العكوب، سنيريا، وفي الصيف البامية والفاصوليا والملوخية واللوبيا والبطاطا.
"عندما خرجنا من القرية كنا قد تركنا ماتور المي شغال على ري الأرض"، تقول أم صالح.
ولم يغب عن ذاكرتها أكلة "اللزاقيات"، وهي أكلة من الأكلات الشعبية المشهورة في القرية، وتقول: "كنا نعجن طحين القمح ونزيد الماء فيها حتى تصبح العجينة رخوة وندهنها بالسمنة البلدية أو الزبدة ونرش عليها السكر ونخبزها على الصاج، أي ما يشبه الكلاج الآن".
في وادي الحوارث دكاكين كبيرة تعود لمواطنين من مناطق الشعراوية شمال طولكرم وكان زوجها يملك دكانا صغيرا، تتذكر أن التعليم في القرية كان على يد الشيوخ في تعليم القرآن الكريم، لم يكن فيها مدارس بعد.
وعن طبيعة العلاقات بين الناس، تشير أم صالح إلى أنها علاقة طيبة، الكل يد واحدة يعملون معا، وتستذكر العائلات التي كانت تقطن في وادي الحوارث ومنهم سروجي وأبو خرمة، والشيخ علي، والحاجبي، والدرسية، والتكروري، مشيرة إلى أنه بعد النكبة بقيت عائلة واحدة هي عائلة أبو عيسى الحاجبي في وادي الحوارث الشمالي.
وترى أم صالح كما كل لاجئ هجر عن وطنه واستقر به المطاف في المخيمات، أن الأمل ما زال قائما لتحقيق العودة الذي سيأتي يوما مهما طالت السنوات والأزمنة، وتعتبر هذه القرية بتفاصيل الحياة التي كانت سائدة فيها ما يثبت أن جذور شعبنا الفلسطيني على هذه الأرض ممتدة عبر التاريخ، وأن البلاد التي كانت عامرة بأهلها ومزدهرة ليست كما يدعي الاحتلال بروايته الكاذبة، أنها كانت أرضا بلا شعب وكانت خرابا وعمروها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
هـ.ح/ م.ب