الرئيسية تقارير وتحقيقات
تاريخ النشر: 04/06/2023 01:00 م

عصر بائس من حياة "الميت"!

صورة تظهر انحسار البحر الميت (تصوير: ايمن نوباني/ وفا)
صورة تظهر انحسار البحر الميت (تصوير: ايمن نوباني/ وفا)

 

البحر الميت 4-6-2023 وفا- جميل ضبابات

في الصباح الباكر عندما أشرقت الشمس، بين سلسلة من الجبال الصخرية، كانت تبدو أكبر وأقرب وأكثر إشعاعا واحمرارا من إشراقها في أي مكان آخر.

يتكرر هذا المشهد، عند أدنى نقطة على سطح الأرض، حيث كانت ذات مرة في التاريخ القريب، أمواجا بحرية يحتوي كل لتر ماء منها على 340 غراما من الملح ترتطم بتلك الجبال.

في أعلى تلك المنحدرات التي ما زال الملح عالقا بصخورها منذ عشرات السنين، تقع مدن الضفة الغربية، وأمامها من ناحية الشرق، تقعّرت الأرض وتكوّن البحر الميت، وعاش منذ ملايين السنين.

أسفل تلك المنحدارات، صخرة يميل لونها إلى الحمرة الباهتة، هي الأشهر في تلك المنطقة، نقش طبوغرافيون إنجليز على وجهها، عندما زاروا المنطقة إبان الحرب العالمية الأولى، رمز مؤسستهم صندوق اكتشاف فلسطين "PEF"، وجعلوه مؤشرا لقياس مستوى سطح البحر الميت في سعيهم آنذاك إلى تحديد مستوى الماء.

تقع الصخرة مقابل الساحل الغربي للبحر الميت على بعد عدة كيلومترات من أطراف مدينة أريحا الجنوبية، ولم يكن العثور عليها عند أطراف الصحراء سهلا، فالصخور المنحوتة بفعل عوامل التغير عبر ملايين السنين تتشابه إلى حد بعيد.

في أعلى قمة الجبل الذي تقع عند أسفله الصخرة، تمنح الإطلالة على البحر الميت، رؤية واضحة لمدى استجابة أخفض نقطة على سطح البحر، لتدخل البشر والطبيعة معا، فالتغييرات أصبحت أكثر وضوحا، فالبحر انحسر ومساحته تضاءلت وعمقه يقل سنة بعد سنة.

"من السهل نسبيا تخمين ماذا حدث بالعين المجردة؟. فإذا كان نظر من يحاول رؤية أول البحر الميت سليما، فإنه سيرى البحر بعيدا عن مكانه الذي كان فيه قبل سنوات"، يقول رئيس جمعية الحياة البرية الفلسطينية عماد الأطرش.

ويضيف الأطرش الذي قاد فريقا فلسطينيا خلال السنوات الماضية، لرصد ما يجري في محيط البحر الميت: "البحر انحسر وابتعد كثيرا عن الصخور بنحو عدة كيلومترات نحو الشرق، وعمقه أصبح أقل بعشرات الأمتار من تلك العلامة".

إن ما كانت تقيسه بريطانيا العظمى في الماضي بنقش في الصخور السفلية لهذه المرتفعات أصبح الفلسطينيون وغيرهم من الزوار الأجانب يقيسونه بالنظر والإحساس اليومي.

فرحان الرشايدة شاب في الثلاثينات من عمره ينظم رحلات سياحة لمشاهدة اللحظات الأولى من شروق الشمس فوق البحر الميت، شاهد على ما يجري في أكثر المسطحات المائية غرابة.

"في السنوات الأخيرة، أصبح البحر مختلفا، لقد عاد إلى الوراء. إذا فقدنا البحر فقدنا حياتنا، وسيصبح هذا المكان مهجورا"، يقول الرشايدة.

بالنسبة إلى المراقبين والمختصين الفلسطينيين، فإن الوقت الحرج يقترب، وتحول البحر الميت إلى بركة ملح كبيرة ليس إلا مسألة وقت.

ويخبر الأطرش مراسل "وفا" أن "تلاشي البحر بشكله الحالي يحتاج إلى عقود قليلة، لكن ذلك لن يكون قريبا جدا، إلا أنه قد يحدث في منتصف القرن الحالي".

يردد المعنى ذاته آخرون بتشاؤم أقل، وآخرون يأملون تجدد دورة الطبيعة لإحياء البحر.

بعض السياح الأجانب يمكنهم التجول قرب صخرة القياس لدقائق قليلة جدا، قبل أن تنتهي رحلتهم دون مقدرتهم على الوصول إلى الماء، بسبب خطر الوقوع في "بلاعات" تظهر بشكل فجائي في الأرض التي تركها البحر وراءه عندما انحسر.

"قبل 27 عاما زرت مناطق كثيرة حول شاطئ البحر. هذا العام عدت وكان المكان مختلفا، فقد اختفت الكثير من المناطق التي كانت ذات يوم مناطق للاستراحة والمنتجعات(..) يمكن أن تتخيل أن هذا كابوس في نهاية فيلم"، يقول أحد السياح.

إلى الجنوب عدة كيلومترات، في المناطق التي تعزل إسرائيل وراءها الضفة الغربية، كان هذا المكان "عين جدي" في يوم من الأيام مكانا للاستجمام، لكنه الآن مجرد ماض جميل، بعدما تعرض للانهيار والخراب بسبب هبوط الأرض وما عليها من شوارع ومنشآت، وكأن زلزالا ضربها.

المشهد يُظهر سرعة التغير في طبوغرافية المنطقة، وأما بالنسبة إلى ماضي المنطقة القريب، فلم يكن هذا محسوبا لكل من تواجد هنا، أما المستقبل فهو ليس واعدا كما يراه الأطرش دون أن تتدخل الدول بسياسات جديرة تحول دون نهاية حتمية للبحر.

مستوى سطح البحر الميت ينخفض سنويا، ويبلغ حجمه اليوم نصف حجمه عام 1976، ويبلغ انخفاضه حاليًا 436 مترًا تحت مستوى سطح البحر.

وتؤكد مؤسسات البحث الكبرى في العالم، أن هناك سببين رئيسين: الأول الاستهلاك المتواصل لماء البحر من الدول المجاورة له (الأردن، وإسرائيل)، والثاني التغير المناخي، الأمر الذي أثار نقاشا بين علماء المسطحات المائية عن المسؤول الأول عن موت "الميت": الطبيعة أم الإنسان؟.

في السنوات القليلة الماضية، صاغ الفلسطينيون فلسفة سياحية جديدة، سموها سياحة المسارات، ومنها مسار البحر الميت، الذي يعمل فيه الرشايدة وأفراد آخرون من عائلته.

مئات السياح من كل أنحاء العالم، يسيرون من مدينة بيت لحم، مخترقين سلسلة جبال وأودية حتى يصلوا إلى المطلة (المنطقة الجبلية الأعلى شرق الضفة)، لمراقبة البحر الميت بكاميراتهم من على حافة صخور منحدرة بشدة، والاستمتاع بشروق الشمس التي ستسقط أشعتها فوق مسطحات الملح التي انحسر الماء عنها.

أعلى تلك الصخور التي يقف عليها الرشايدة وزواره، تظهر الجبال والصحراء خلفهم، كأنها أرض جرداء تحجب أمامها بحرا من عجائب الدنيا، لكن الصخور المتجعدة التي تتشكل فيها شلالات صغيرة خلال الشتاء تحمل المياه من الأودية، وتحمل معها أملا صغيرا لإنعاش "الميت".

يقول الرشايدة: "كنا نرى البحر عندما يتغير لونه بسبب الأتربة التي تحملها مياه الأودية معها. مرة كان بحرا أبيض ومرة أخرى كان أحمر".

حقيقة أن سطح البحر الميت أدنى نقطة على سطح الأرض، مسألة ثبتتها كل القواعد العلمية منذ زمن طويل، لكن مقدار ذلك الانخفاض يتم تعريفه سنويا كلما نقص البحر بمقدار متر تقريبا.

قبل شهور قليلة، أخرج مركز هيلمهولتز لبحوث الأرض في ألمانيا، نتائج بحثه الأكثر إثارة في التاريخ الحديث، والتي اعتمدت على دراسة رواسب عمرها 15 ألف عام من البحر الميت، والتي أشارت إلى أن الانخفاض في مستوى مياهه كان أمرا معروفا في الماضي، وهو ما حـدث عندما انخفض المستوى 250 مترا كما حصل في أواخر العصر الجليدي.

خلال سنوات طويلة اعتاد خالد حمودة وهو يدير مؤسسة لتنظيم الرحلات الطبيعية زيارة البحر الميت مرة أو أكثر كل أسبوع، لأسباب كثيرة منها زيارة جبال الملح جنوب البحر.

"هذا بحر لا يشبه بحرا آخر. وشروق لا يشبه شروقا آخر، هناك أكبر جبال العالم الملحية، بطول 12 كيلومترا وعرض كيلومترين"، يقول حمودة.

خلال الستين عاما الماضية، عاش فتحي براهمة في مدينة أريحا، التي يقع نهر الأردن الشريان الرئيسي الذي يغذي البحر الميت على مقربة منها، ولا تبعد سوى خمس دقائق في المركبة عن البحر، ويعد شاهدا آخر على ما جرى للبحر وكيف تغيرت طبوغرافية المنطقة كلها.

"بحلول منتصف السبعينيات، بدا الخراب الذي يصيب أطراف البحر الميت واضحا، لقد اختفت المياه التي كانت تصل إلى مسافة قريبة من أطراف الجبال الغربية وانحسرت مسافات بعيدة عنها، وظهرت المناطق المهجورة التي كانت يوما تعج بالسياح"، يقول براهمة.

دورة الطبيعة والتبخر العالي للماء، والاستغلال الكبير لموارد البحر الميت من الدول التي تملك حصة فيه، هما سببان حقيقيان للفقدان المستمر في مساحته وعمقه.

ويشكل البحر الميت احتياطيا هائلا من الملح والبوتاس والمغنيسيوم والبروم، ويقع اللوم عليها في جذب المستثمرين، الذين يأخذون ماء البحر ويتركونه جافا يوما بعد يوم.

وفقًا لتقرير نشرته "Allied Market Research"، وهي شبكة توزيع بيانات مالية عالمية مقرها في الولايات المتحدة، فقد حقق سوق مستحضرات التجميل العالمية من طين البحر الميت 723 مليون دولار عام 2021، ومن المتوقع أن يصل إلى 2.6 مليار دولار بحلول عام 2031.

وأمام هذه الأرقام، تظهر خسارة الفلسطينيين المستمرة من استحواذ إسرائيل على حصتهم من البحر، وأكثر ما يفعلونه الآن، هو التقاط صور من بعيد للبحر، أو الوصول بصعوبة بالغة إلى بعض شواطئه في الشتاء الدافئ، أو في مساءات الصيف.

ويظهر البحر الميت اليوم الذي يمتد على مسافة 50 كيلومترا وعرض نحو 18 مترا، ينازع بين عالمين اثنين: الأول رومانسي فيه تبدأ قصص رؤية القمر المكتمل والشروق الذهبي للشمس، والثاني اقتصادي فيه تنتهي قصة العالم الأول.

لم يكن الانحسار الخطر الوحيد الذي يحدق بالمنطقة، ففي الطرف الغربي الذي تسيطر عليه إسرائيل ظهر "الطفح" الأرضي، الذي رصد بالأقمار الصناعية والكاميرات أيضا، (حفر مفاجئة تشكلت بفعل انهيارات أرضية بعد ذوبان الملح تحت المناطق الجافة).

ومثلما جذب البحر أنظار الباحثين عن المتعة، جذبت هذه الحفر أيضا أنظار الباحثين عن الإثارة عبر التقاط صور جوية لها.

في المرة الأولى التي شاهد فيها الرشايدة هذه الحفر التي تتشكل، تذكر أحاديث أجداده عنها عندما كانوا يهبطون لجلب الملح من الأسفل لعلاج مواشيهم.

أما آخرون من زوار البحر، فاعتقدوا ساخرين أن نيزكا ضرب الأرض وشكلها، فيما وصفها آخرون بأنها طفح جلدي أصاب منطقة الجفاف على أطراف البحر الميت.

اليوم، تدرك المؤسسات البحثية التي تُعنى بالمسطحات المائية، أن المشكلة أكبر من كل تلك التوصيفات، وأنها ترقى إلى حدوث كوارث أكبر من نتائج الزلازل ذاتها.

فعليا، البحر الميت مركز لتكوُّن الزلازل، وقد أخبر باحثون في مركز رصد الزلازل في جامعة النجاح في مدينة نابلس مراسل "وفا"، بأن 228 هزة أرضية تتراوح قوتها بين 0.7 إلى 3.6 درجة على مقياس ريختر ضربت المنطقة في آخر عامين.

لكن مع كل هذا التشاؤم، يبقى لدى ضيوف البحر الميت ومراقبيه قليل من الأمل، خاصة عندما تفيض مياه الأمطار الرعدية عبر أودية القدس وبيت لحم، لتغذي البحر وتعطيه أملا بحياة جديدة.

ــ

ج.ض/ م.ج

مواضيع ذات صلة

اقرأ أيضا