غزة 11-7-2025 وفا – محمد دهمان
في قطاع غزة المحاصر، لم تعد حاجة المواطنين الجائعين تقتصر على الدواء والطحين، بل امتدت لتشمل أبسط مقومات البقاء كالسُّكر، حيث تحول من مادة غذائية إلى وسيلة إنقاذ حقيقية لمرضى السكري.
بين الخيام والمراكز المزدحمة بالنازحين، يعاني مرضى السكري كغيرهم من أصحاب الأمراض المزمنة من تدهور صحي في ظل انعدام الموارد، ناهيك عن الغلاء الفاحش الذي جعل قطعة صغيرة من الشوكولاتة أمنية بحد ذاتها، ونوعا من الرفاهية.
في إحدى خيام النزوح المقامة داخل مركز إيواء بمدينة غزة، تجلس ليلى محمد (46 عامًا) منهكة تحاول مقاومة التعب، وتقول: "لم يخطر ببالنا أن نقوم بتخزين المواد الغذائية كما فعل الآخرون، فلم نكن نتوقع عودة العدوان الإسرائيلي بهذه الوحشية، فأنا أعاني من مرض السكري وارتفاع ضغط الدم، وأحتاج إلى السكر كدواء لا كغذاء، لأنه يُبقيني على قيد الحياة".
ليلى، التي كانت تعتمد على نظام غذائي دقيق وأدوية منتظمة، أصبحت اليوم تُصارع نوبات هبوط السكر المتكررة، وتعيش على ما تبقّى من مكمل غذائي لا تستسيغه، لكنه الوسيلة الوحيدة لثباتها الجسدي.
"جسدي هزيل، بالكاد أستطيع الوقوف. أحيانًا أشتري ملعقتين من السكر فقط لأعدّ كوب شاي، هي محاولة بسيطة للهروب من هذا الواقع القاسي، أُمنيتي هي انتهاء العدوان، لعلنا نستعيد شيئًا من صحتنا قبل فوات الأوان".
أما عبد الحي أبو لبدة (53 عامًا)، وهو من سكان محافظة رفح والنازح حاليًا إلى منطقة المواصي في خان يونس جنوب قطاع غزة، فقد أُصيب بمرض السكري في سن الأربعين، واستطاع التكيّف معه لسنوات طويلة.
لكنّه يقول: "كل شيء تغيّر خلال العدوان، كنت أتناول أدويتي بانتظام، وأحرص على نظام غذائي متوازن، لكن بعد الهدنة الأخيرة وتفاقم الأوضاع، اختفت الأدوية من الصيدليات، وأصبح من شبه المستحيل الحصول على السكر أو طعام صحي يساعدني في التحكم بمرضي".
ويُضيف عبد الحي بأسى: أشعر بالإرهاق المستمر، وأحيانًا أفقد وعيي نتيجة هبوط السكر… لا أملك حتى قطعة شوكولاتة أو حلوى بسيطة أستعين بها لرفع مستوى السكر في دمي. أحيانًا ألجأ إلى المكملات الغذائية، لكنها نادرة، وإذا وُجدت، يكون ثمنها باهظًا يفوق قدرتي."
ومن قلب معاناة النزوح، تنقل رندة حسين (38 عامًا)، وهي نازحة من محافظة رفح ومقيمة اليوم في خيمة بمنطقة المواصي بخان يونس، صورة أخرى لا تقل ألمًا: تقول: "أطفالي الثلاثة يعانون من الهزال، ويطلبون يوميًا حلوى أو شوكولاتة، وحتى قطعة من الحلاوة الطحينية أصبحت أمنية يصعب تحقيقها، كل هذه الأصناف اختفت بسبب الحصار، وإن وُجدت، فأسعارها خيالية لا يستطيع أحد دفعها."
وتُتابع رندة بمرارة: "كان سعر كيلو السكر قبل العدوان لا يتجاوز 3 شواقل، أما اليوم، وإن وُجد، فقد وصل إلى 450 شيقلًا! وقطعة شوكولاتة صغيرة كانت تُباع بـ2 شيقل، والآن أصبحت بـ80 شيقلًا، ونادرًا ما تتوفر. أطفالي لم يعودوا قادرين حتى على حمل جالون المياه من شدة الوهن، فأضطر للذهاب بنفسي لجلبه، رغم أنني أيضًا أعاني من التعب والإرهاق. نحن جميعًا مرهقون. أجسادنا لم تعد تقوى على احتمال هذه الحياة."
السكر ليس ترفًا: شهادة طبية تحذّر من كارثة صامتة
في حديث خاص لوكالة "وفا"، حذّرت الدكتورة علا فهمي النجار، من خطورة نقص المواد الغذائية الأساسية في قطاع غزة، مؤكدة أن الكربوهيدرات، بما في ذلك السكر، الدقيق، البطاطا، والأرز، تُعد مكونات أساسية للحفاظ على صحة الإنسان، وخاصة الأطفال وكبار السن.
وشدّدت على أن حرمان الجسم من هذه العناصر يؤدي إلى فقدان حاد في الوزن وسوء تغذية، قد تتفاقم مضاعفاته إلى مستويات خطيرة تشمل الجفاف، واضطراب وظائف الأعضاء الحيوية، بل وقد تصل إلى الوفاة.
وأشارت إلى أن مرضى السكري، وخصوصًا من النوع الأول، يتعرضون للخطر المباشر نتيجة فقدان القدرة على تنظيم جرعات الأنسولين بسبب نقص السكر، ما قد يؤدي إلى هبوط شديد في سكر الدم، أو على العكس إلى ارتفاع حاد يتسبب في الحموضة ويدخل المريض في حالة طارئة تحتاج إلى رعاية مركزة.
وقالت: هذا التذبذب في مستوى السكر (ارتفاعًا وانخفاضًا) لفترات طويلة، يؤدي إلى مضاعفات مزمنة مثل الجلطات القلبية والدماغية، وفقدان البصر، وقصور الكلى، وتلف الأعصاب الطرفية، الذي قد ينتهي ببتر القدم".
وعن أعراض نقص السكر، بيّنت أنها تشمل: التوتر، والتعرق، وتسارع ضربات القلب، والصداع، والدوخة، وقد تصل إلى الإغماء أو الوفاة إن لم تُعالج في الوقت المناسب.
وحول البدائل الممكنة لتعويض نقص السكر، أوضحت الدكتورة النجار أن بعض المواد مثل الخبز، والأرز، والمعكرونة يمكن أن تُستخدم لرفع مستوى السكر في الدم، إلى جانب التمر، الزبيب، وبعض أنواع الفواكه المتوفرة.
لكنها استدركت قائلة: "للأسف، الارتفاع الجنوني في الأسعار يحرم معظم المرضى من الوصول حتى إلى هذه البدائل البسيطة، ما يجعل حياتهم مهددة بشكل يومي".
وتؤكد النجار: "نستقبل يوميًا حالة إلى حالتين في كل مركز صحي من نوبات هبوط السكر، سواء لمرضى أو لأشخاص أصحاء، بينهم حوامل ومرضعات. أما المكملات الغذائية المتوفرة في المراكز فهي مخصصة فقط للأطفال دون سن 5 المصابين بسوء تغذية حاد، بينما تُستثنى باقي الفئات".
وختمت النجار حديثها قائلة: "لا تتوفر لدينا أرقام دقيقة لمرضى السكر بسبب انقطاع الكهرباء، ونقص السولار، والانقطاع المتكرر للإنترنت، ما يعيق جمع البيانات بشكل منظم ويُخفي حجم الكارثة الصحية الحقيقية".
وبحسب بيان صحفي أصدره الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بمناسبة اليوم العالمي للصحة (الصادر بتاريخ 7 نيسان/ أبريل 2024)، فإن ما يقارب 350,000 شخص في قطاع غزة يعانون من أمراض مزمنة، حُرموا من تلقي الرعاية الصحية اللازمة، بينهم71,000 مصاب بمرض السكري، و225,000 مصاب بارتفاع ضغط الدم، و45,000 مصاب بأمراض القلب والأوعية الدموية، إضافة إلى آلاف المرضى المصابين بالسرطان، والفشل الكلوي، وأمراض أخرى.
وأكد البيان أن نقص الأدوية الأساسية والمستلزمات الطبية، وإغلاق مرافق الرعاية الصحية، بما في ذلك مستشفى السرطان الوحيد ومستشفى الأمراض النفسية في غزة، يعيق بشكل مباشر إمكانية حصول هؤلاء المرضى على الحد الأدنى من الخدمات اللازمة للبقاء على قيد الحياة.
مع ارتفاع أسعارها المستمر وغياب البدائل، يسقط المرضى واحدًا تلو الآخر في صمت، ويُحرم الأطفال من أبسط مصادر الطاقة اللازمة للنمو والبقاء. تتحول الحياة اليومية إلى معركة قاسية ومؤلمة من أجل البقاء في وجه الحصار والمجاعة والمرض.
ـــــ
م.د/ر.ح