أهم الاخبار
الرئيسية آراء
تاريخ النشر: 27/12/2025 07:30 م

ردٌّ مسيحي على أنصاف الحقائق التي يروّج لها نتنياهو

رام الله 27-12-2025 وفا- بقلم القس الدكتور جاك سارة

 في تهنئته الأخيرة بمناسبة عيد الميلاد، تحدّث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بنبرة ودّية عن المسيحيين في الأرض المقدسة، مصوّرًا إسرائيل كملاذٍ فريد يزدهر فيه المسيحيون، ومُلمِّحًا في الوقت ذاته إلى أنهم يعيشون في باقي المنطقة تحت خطرٍ دائم. تلقى مثل هذه التصريحات صدىً قويًا لدى كثير من المسيحيين الغربيين، ولا سيّما أولئك الميالين أصلًا إلى رؤية الشرق الأوسط من خلال ثنائيةٍ أخلاقيةٍ مبسّطة: أمانٌ تحت إسرائيل، واضطهادٌ في كل مكانٍ آخر.

غير أنّ هذه الادعاءات، وإن احتوت شذراتٍ من الحقيقة، لا تروي القصة كاملة. والكتاب المقدس يذكّرنا بأن أنصاف الحقائق تبقى أكاذيب؛ فهي تكاد تكون كذبًا.

بصفتنا مسيحيين فلسطينيين، يجب ألّا يكون ردّنا دفاعيًا أو انفعاليًا، بل نبويًا— متجذّرًا في الحق، ومتّسقًا أخلاقيًا، ومنبثقًا من واقعٍ معيش. فالمشكلة الأعمق ليست ادعاءً واحدًا غير دقيق، بل نمطًا أوسع ومقلقًا: يُستَحضَر المسيحيون حين يخدمون سرديةً سياسية، ويُتجاهَلون حين يتكلّمون بأصواتهم.

حذّر النبي عاموس إسرائيل القديمة قائلًا: «تدوسون الفقير وتأخذون منه جزية قمح… لذلك تبنون بيوتًا من حجارةٍ منحوتة ولا تسكنونها» (عاموس 5: 11). لم يكن حكم الله على لغةٍ دينية، بل على الاتساق الأخلاقي—على الفجوة بين ما يُعلَن وما يُمارَس.

وعندما يُعترَف بمعاناة المسيحيين انتقائيًا في سياقٍ ويُتجاهَل في سياقٍ آخر—حين تُقابَل الاعتداءات المتكرّرة على الكنائس، والبصق على رجال الدين، وتدنيس المقابر المسيحية في القدس بالصمت؛ وحين أُحرِقت كنيستنا الإنجيلية (كنيسة الإتحاد المسيحي الانجيلية) في القدس الغربية قبل سنوات ولم يُعتقَل أحد، ولم تُبذَل جهودٌ شرطية جادّة للمساءلة—بينما تُضخَّم حوادث معزولة في أماكن أخرى وتُستَخدَم كسلاحٍ دعائي، فإننا لا نشهد اهتمامًا حقيقيًا بالمسيحيين، بل دفاعًا انتقائيًا عنهم. والأكثر إزعاجًا أنّ هذه الانتقائية تكشف رسالةً سياسية لا تعبيرًا صادقًا عن حسن النية. فهي لا تتعلّق بتهنئةٍ حقيقية بعيد ميلاد مجيد، بقدر ما تتعلّق بتعزيز سرديةٍ يُعترَف فيها بمعاناة المسيحيين فقط حين تكون نافعة.

أشار نتنياهو إلى حرق شجرة عيد الميلاد في جنين بوصفه دليلًا على هشاشة المسيحيين تحت الحكم الفلسطيني. وكانت الدلالة واضحة. غير أنّ الوقائع تروي قصةً مختلفة تمامًا.

عند وقوع الحادثة، جرى تحديد الفاعل فورًا، واعتقاله وسجنه من قبل السلطة الفلسطينية. ونُصِبت شجرة عيد ميلاد جديدة وأُضيئت. واستمرّ الاحتفال بحضور رجال دين مسيحيين، وقيادات دينية مسلمة، ومسؤولين مدنيين، وممثّلي السلطة الفلسطينية.

وبدل أن تكشف الحادثة تعصّبًا دينيًا، أظهرت المساءلة، والتضامن المجتمعي، والتعايش العميق الجذور بين المسلمين والمسيحيين

المسيحيون الفلسطينيون ليسوا بقايا هشّة تكافح للبقاء على هامش الزمن. نحن نعبد بحرية، وندير مدارس ومستشفيات، ونقود كنائس ومؤسسات، ونُسهِم بفاعلية في الحياة العامة. تحدّياتنا سياسية لا دينية، وهي مشتركة مع جيراننا المسلمين.

وخارج فلسطين، تتهاوى هذه المزاعم أكثر. ففي مصر، أكبر تجمعٍ مسيحي في الشرق الأوسط، يواصل المسيحيون عبادتهم علنًا ويسهمون في تشكيل الحياة الوطنية. وفي لبنان، يشكّل المسيحيون ركنًا أساسياً من هوية البلاد وقيادتها. وفي الأردن، يتمتّع المسيحيون بالمواطنة الكاملة، وحرية العبادة، والمشاركة العامة. وحتى في دول الخليج، تعمل الكنائس علنًا وتلتقي جماعات مسيحية نابضة بالحياة أسبوعيًا.

إن كانت حياة المسيحيين مهمة حقًا، فكلّ حياةٍ مسيحيةٍ مهمة. التضامن الحقيقي يصغي قبل أن يتكلّم. والدفاع الحقيقي يروي القصة كاملة. والإيمان الحق يرفض تسليح المعاناة.

وعلى الرغم من النبرة الدافئة لنتنياهو، فإن هذه التهنئة الميلادية ليست تعبيرًا عن اهتمامٍ صادق بالمسيحيين في الأرض المقدسة. إنها بيانٌ سياسي صيغ لتعزيز سرديةٍ معيّنة، يستخدم المسيحيين كبرهانٍ رمزي، بينما يتجاهل واقعهم المعاش وشهاداتهم العلنية. وحين يُستَخدَم الإيمان بهذه الطريقة، يتحوّل إلى دعايةٍ لا إلى حق.

نحن لسنا ضيوفًا في هذه الأرض، ولسنا ملحقاتٍ سياسية. نحن أحفاد أوائل أتباع يسوع، نشهد حيث أُعلنت البشارة أول مرة.

والسؤال المطروح أمام الكنيسة العالمية ليس أين يزدهر المسيحيون أكثر، بل هل هي مستعدة لأن تقف مع الحق بنزاهة عندما يُعقِّد هذا الحق السرديات السهلة.

 

مواضيع ذات صلة

اقرأ أيضا