القدس 8-5-2025 وفا- بلال غيث كسواني
في قلب البلدة القديمة من القدس، وعلى مقربة من باب الحديد، أحد أبواب المسجد الأقصى المبارك، يقع "رباط الكرد"، وهو معلم تاريخي إسلامي يعود تأسيسه إلى العهد المملوكي في القرن السابع الهجري، عندما أوقفه القائد السيفي كرد، أحد كبار قادة المماليك، لإيواء الفقراء والحجاج والزوار والعلماء والمرابطين.
ولأكثر من سبعة قرون، شكّل الرباط جزءاً من النسيج الديني والمعماري المرتبط بالأقصى، حتى بات أحد أبرز شواهد الرباط الإسلامي في المدينة المقدسة.
مؤخرا، اقتحمت سلطات الاحتلال الإسرائيلي "رباط الكرد" المعروف أيضا بـ "حوش الشهابي، وأزالت الصاج والطمم الذي أبقته دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس لإغلاق المساحة المؤدية إلى النفق المحفور منذ عقود، وتوسيع ساحة "رباط الكرد"، لفرض واقع جديد في المكان.
توسيع ساحة الحوش
المواطن خضر موسى الشهابي، الذي يسكن في حوش الشهابي (رباط الكرد)، قال لـ"وفا" إن العائلة تفاجأت بسلسلة أحداث متكررة هدفها توسيع ساحة الحوش لزيادة عدد "المصلين اليهود" في هذه الساحة التي تحيط بالجدار الغربي للمسجد الأقصى.
وأشار إلى وجود دعامات حديدية منذ العام 1971 في منطقتين تحت أقواس الحوش، ومنذ ذلك الحين لغاية عام 2011، قبل أن يقدم الاحتلال على إزالة الدعامات، إلا أن العائلة انتزعت قرارا من "المحاكم" الإسرائيلية في حينها يمنع أي "ترميم" في المكان.
وأضاف أن سلطات الاحتلال حاولت مؤخرا إزالة بقية الدعامات الحديدية مع وجود تصدّع في البناء، قبل أن تقتحم في الأيام الأخيرة الحي بذريعة إجراء أعمال ترميم وإزالة طمم وأتربة، موضحا أن العائلة قدمت عريضة لـ"المحاكم الإسرائيلية" بالتعاون مع عدة مؤسسات دينية وحقوقية، لاستصدار قرار يمنع الترميم.
وبحسب الشهابي، يعيش في الحوش قرابة 18 عائلة مقدسية تضم أكثر من 100 فرد، ويتعرضون لمضايقات من الاحتلال في الدخول والخروج، لافتا إلى أن عائلات الحي قلقة من نوايا الاحتلال وتشعر بخطر كبير على منازلها، ورغم أن سلطات الاحتلال أوقفت حاليا العمل في الحي، وأعادت الصاج "الصفائح الحديدية" والبلاط، ما يشير إلى نيتها استكمال ترميم السقف والجدران والأرضية.
وقال الشهابي: "رغم توقفهم عن العمل، لكنننا نعيش حالة ترقب لما سيحصل في حال عودتهم للعمل مجددا".
وأضاف أن الحوش يحمل اسم دار الشهابي نسبة إلى العائلة التي تسكنه منذ قرون، وأصبح منذ سبعينيات القرن الماضي هدفاً مباشراً ضمن سياسات الاحتلال الرامية لتهويد محيط المسجد الأقصى وفرض واقع جديد يخدم الرواية الإسرائيلية حول ما يسمى "الهيكل المزعوم".
اعتداءات متكررة
وبحسب الشهابي، بدأ الاحتلال بمحاولات متواصلة لإضعاف المبنى عبر الحفريات، ثم تثبيته بدعامات حديدية تمهيداً لربطه بساحة حائط البراق، وسط اعتراضات متكررة من أصحاب المكان وسكان الحي.
وتابع أنه في عام 1999، تصدت عائلة الشهابي لمحاولة اقتحام للموقع من قبل الحاخام المتطرف يوسي أولوفير، حين حاول إزالة الأتربة تمهيداً لفتح ممر جديد.
وتكررت الاعتداءات لاحقاً، وبلغت ذروتها في كانون الثاني/ يناير 2011، حين أعلنت سلطات الاحتلال افتتاح ما أسمته "المبكى الصغير"، ووضعت لافتة تحمل هذا الاسم فوق "رباط الكرد"، مرفقة بعبارة "حوش الشهابي"، في محاولة لطمس هويته الإسلامية وتحويله تدريجياً إلى ساحة صلاة يهودية تخدم المشروع التهويدي المتسارع في القدس.
وأردف الشهابي قائلا: "تدفق المستعمرين لأداء الشعائر الدينية اليهودية داخل الرباط بات مشهداً أسبوعياً، يتكرر كل يوم سبت وفي الأعياد، حيث يتم النفخ بالبوق وأداء طقوس علنية وسط حراسة مشددة من شرطة الاحتلال، في انتهاك واضح للوضع القائم منذ احتلال القدس عام 1967".
وأكد أن رباط الكرد، الذي صُمّم ليكون محطة للعلم والتعبد والضيافة لزوار المسجد الأقصى، يواجه اليوم مخططاً محكماً لطمس هويته وتحويله إلى معلم يهودي مزيف، في سياق أشمل يستهدف عزل المسجد الأقصى عن بيئته التاريخية والطبيعية، وتحويل محيطه إلى ما يُسمى "الحي اليهودي المقدس".
مخطط تهويدي متسارع
من جانبه، قال المستشار الإعلامي لمحافظة القدس معروف الرفاعي لـ"وفا" إن التطورات في محيط رباط الكرد تشير إلى مخطط تهويدي متسارع يهدف إلى السيطرة الكاملة على الحائط الغربي للمسجد الأقصى، تمهيداً لإغلاق باب الحديد كما حدث مع باب المغاربة، وتهيئة الرباط ليصبح ساحة صلاة يهودية تحت مسمى "المبكى الصغير".
وأضاف: يهدد هذا التوسع بهدم الرباط وطمس المعالم الإسلامية فيه، تماماً كما تم تدمير حارة المغاربة في السابق. كما يشمل المخطط مدّ النفوذ اليهودي إلى قلب الحي الإسلامي، من باب السلسلة حتى باب الغوانمة، عبر أسلوب "فكي الكماشة"، لعزل المسجد الأقصى عن محيطه التاريخي الإسلامي.
وتابع الرفاعي: "لا يقف الخطر عند هذا الحد، بل يمتد إلى تهجير العائلات الفلسطينية المرابطة، وفتح بوابات تؤدي إلى أنفاق تهدد أساسات الأقصى، في مشهد يعكس استهدافاً شاملاً للوجود الإسلامي في المنطقة".
وأكد أن التهويد المتدرج لرباط الكرد يندرج ضمن مسعى استراتيجي لتحويله إلى مساحة توازي ساحة البراق، في محاولة للسيطرة الكاملة على الجدار الغربي للأقصى، وتكريس رواية "الهيكل" المزعومة على أنقاض الموروث الإسلامي والتاريخي للمدينة.
سياسة ممنهجة
وأكدت الهيئات الإسلامية في القدس أن اعتداء سلطات الاحتلال الإسرائيلي على "حوش الشهابي"، يأتي ضمن سياسة ممنهجة لتطويق المسجد الأٌقصى المبارك بمشاريع تهويدية، ويمثل خطرا حقيقيا على جدار وساحة (رباط الكرد) الذي يعتبر كما هي تلة باب المغاربة وحائط البراق جزءا لا يتجزأ من المسجد الأقصى/ الحرم الشريف.
وأكدت أن هذا الانتهاك الخطير يثبت أن سلطات الاحتلال تتجاهل الوضع التاريخي والقانوني القائم للقدس الشريف منذ قرون، وتتجاهل ما تدعيه زورا بأنها تهتم بالحساسية الدينية أو السياسية لتاريخ رباط الكرد، علما أن قرارات المجلس التنفيذي لليونسكو رقم 199 ورقم 200 للعام 2016، وقرار لجنة التراث العالمي رقم 39 عام 2015 قد حذرت وطالبت بشكل صريح إسرائيل بصفتها القوة المحتلة بأن توقف انتهاكاتها واستيلائها على لأجزاء الهامة الملاصقة للمسجد الأقصى المبارك، ومنها مقبرة باب الرحمة، والقصور الأموية، وتلة باب المغاربة، ورباط الكرد.
وطالبت الهيئات المقدسية سلطات الاحتلال بالالتزام بالقانون الدولي والقرارات المذكورة أعلاه (200،199 و39)، وتقارير اليونسكو المهنية المبنية عليها، كما طالبتها بالالتزام بدعوة هذه القرارات إلى تمكين أوقاف القدس من ممارسة حقها في ترميم هذه الأماكن والمحافظة عليها، وذلك انسجاما مع مذكرات الاحتجاج الموجهة من أوقاف القدس والمملكة الأردنية الهاشمية التي تطالب سلطات الاحتلال باحترام تكامل وأصالة الهوية الإسلامية الخالصة للمسجد الأقصى المبارك/ كامل الحرم القدسي الشريف، إذ أن جميع أسوار المسجد الأقصى المبارك المحيطة به وجميع الطرق المؤدية إليه هي جزء أصيل من المسجد الأقصى المبارك.
ودعت الدول العربية والإسلامية والمجتمع الدولي وكافة الهيئات الدولية المختصة إلى ضرورة التدخل العاجل لوقف هذه الانتهاكات، وإيقاف هذا العبث بالمواقع الإسلامية التاريخية وما تحمله من تعد سافر على وقف إسلامي وإرث حضاري ممتد ومتواصل منذ آلاف السنين.
أربطة تحيط بالمسجد الأقصى
وقال الباحث إحسان الديك من جامعة النجاح الوطنية في دراسة له حول الأربطة المحيطة بالأقصى إنه تطبيقا لسنة الرباط في الإسلام، وإدراكاً لأهمية بيت المقدس، أقام الأيوبيون والمماليك الربط حول المسجد الأقصى ليرابط فيها القادة والعلماء والزوار والحجاج، ولم يكن أمر هذه الربط خالصاً للأمور العسكرية وحسب، بل كان الهدف منها إلى جانب ذلك توفير النزل للزوار، والكتابات المنقوشة على أبنيتها تدل على هذا الغرض، وقد أنشئت في القدس فيما بين القرنين السابع والعاشر الهجريين سبعة أربطة، منها رباط علاء الدين البصير، ورباط المنصوري، ورباط المارديني ورباط الزمني، ورباط جاويش، والرباط الحموي، وأهم هذه الربط وأشهرها، وأكثرها ارتباطاً بالمسجد الأقصى هو رباط الكرد الذي يقع على الجانب الأيسر من باب الحديد ملاصقاً لجداره الغربي، أوقفه القائد المملوكي المقر السيفي كرد صاحب الديار المصرية سنة 693هـ في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون، فنسب إليه، وصار يعرف برباط الكرد.
وأضاف أنه يشغل الرباط الطبقة الأولى من مبنى مؤلف من ثلاث طبقات، أما الطبقة الثانية التي تعلوه فهي تابعة للمدرسة الجوهرية التي أوقفها الصوفي جوهر زما الأدر الشريفة سنة 884هـ، وبنيت الطبقة الثالثة منه في العهد العثماني، ويمر الداخل إليه من مدخل صغير معقود على جانبيه ملتان حجريتان فيصل إلى ممر ضيق مسقوف، يفضي إلى أماكن مكشوفة، توصل إلى مجموعة من الخلاوي والغرف.
وقال الباحث: يدعي اليهود أن الجدار الغربي لرباط الكرد هو امتداد لحائط البراق الذي يسميه اليهود حائط المبكى وأطلقوا على حجارة الرباط المبكى الصغير.
وختم قائلا: ظل الرباط وقفاً إسلامياً، يقوم بدوره الفكري والاجتماعي قروناً عدة، إلى أن تهدمت بعض أجزائه، واشتراه الشيخ شهاب الدين أحمد شيخ الحرم القدسي في القرن الحادي عشر، وفي عام 1156م أوقفه الشيخ عبد الوهاب بن شهاب الدين على ذريته التي توارثته وظلت تسكن فيه، ولأن المكان لآل الشهابي وهو وقف عليهم ويقطنون فيه لذا سمي بدار الشهابي، واشتهر بحوش آل الشهابي.
ــــ
ع.ف