بيت لحم 28-8-2022 وفا- يامن نوباني
لا أقصى من أن يقدم الإنسان دمه من أجل بلاده. وهذا ما فعله أنطون الشوملي (2 نيسان 1970- 2 أيار 1992) دون تردد.
على الشارع الرئيس –شارع المدارس- الصاعد إلى بيت لحم، قبل دوار "الشعب" الذاهب يميناً إلى بيت ساحور، على اليسار، حيث مقبرة دير اللاتين، يتزين جدارٌ عريض -سور المقبرة- بصورة لشاب في الـ22 من عمره، يحده غسان كنفاني وجورح حبش، تحت تلك الصورة كتب: قلعة الشهيد أنطون الشوملي. وعلى جانبها: لا تمت قبل أن تكون نداً.
جاءت الانتفاضة الأولى (1987-1993) وأنطون في عز شبابه، منتفضاً في كل أيامها ومناسباتها، تعرفه بيت ساحور، ببيوتها وناسها وجدرانها وبياناتها وليل ملثميها، وتعرفه بيت لحم كشجرة عميقة في أرضها، تنبت ثواراً يلاحقون جيبات وجنود الاحتلال في الشوارع والأزقة التاريخية.
في نهايات عام 1990 وحتى بدايات 1992، كانت "سميرة الشوملي" تجهز الدجاجة المحشية، فيأتي ابنها المطارد "أنطون" ليسرقها من فرن الحطب في حوش بيتهم، ويهرب بها إلى الجبال المحيطة في بيت ساحور، قبل أن يعلم الاحتلال بوجوده في المنطقة.
كان يمكن لأنطون الذي جاء آخر العنقود في بيت لويز الشوملي، أن ينهي دراسته "إدارة الأعمال" في جامعة بيت لحم، أن يعمل ويبني ويتزوج وينجب، أو حتى أن يهاجر إلى "تشيلي" مثلاً حيث يعيش الآلاف من أهالي بلدته هناك منذ مائة عام، لكنه اختار أن يكون شهيداً في الانتفاضة، فأصابته رصاصة متفجرة "دمدم" في الكبد، خلال تظاهرة للانتفاضة لاحق خلالها جنود الاحتلال الشبان، وأطلقوا النار عليه من مسافة صفر.
أنطون الذي حمل مع رفاقه جثمان الشهيد إياد أبو سعدى ونقلوه من بيت إلى بيت وطافوا به الجبال وصولاً حتى العبيدية، لمنع الاحتلال الذي شن حملة تفتيش في المدينة من اختطاف جثمانه، قبل أن يوارى الثرى في اليوم التالي، ليلاً.
بيت ساحور، قدمت خلال الانتفاضة الأولى ستة شهداء، وهم: حازم زبون، وادمون غانم، واياد ابو سعدى، وعطا الله مصلح، وانطون الشوملي، وسلام مصلح.
لم تُثنه حدية والده في التعامل مع أبنائه، وفرض رقابة صارمة على تحركاتهم خارج البيت، ولا محاولات والدته التي دللته دلالاً فائقاً، ولا أشقاؤه وشقيقاته الخمس، الذين وجدوه لؤلؤة البيت ومصدراً لتعديل مزاجه، وكان الشهيد أيضاً محباً للفرح، للقاء الأصدقاء والدبكة على أنغام وكلمات الأغاني الوطنية، كما يظهر فيديو للشهيد في نهايات الثمانينات في حلقة دبكة.
انخرط أنطون مبكراً في العمل الثقافي والاجتماعي والرياضي، عضواً نشطاً في شبيبة دير اللاتين، التي اعتبرها الاحتلال مركزاً للتحريض والتعبئة ضد الاحتلال، وقام بحظر أنشطتها وفعاليتها وفي احدى حملات المداهمة اعتقل أنطون وهو في عمر الـ15، وكانت من بين التهم "قراءة كتب سياسية"!
تقول شقيقته عواطف الشوملي: كان أنطون مندفعاً إلى الثورة بطريقة مجنونة، لم يوقفه، يوماً، شيء، عن الانخراط في الحالة الوطنية. يجيء إلى البيت بالكاسيتات الوطنية، التي لم نزل نستمع إليها حتى اليوم في بيتنا، وأذكر أحد تلك الكاسيتات الذي أخذته من مقتنياته بعد استشهاده وكان للمغني الثوري "جورج قرمز".
وتضيف: كان الأصغر، كان مدللا. كانت شخصيته قوية وله شبكة علاقات اجتماعية. الكل كان يعرفه في بيت ساحور، كانت فيه روح السيطرة والتمرد. كان بعكسنا، كنا أكثر هدوء واحتكاكا وأقل اجتماعية.
وتابعت: كان استشهاده صعبا للغاية علينا. كنت متزوجة من سنة وحاملا في أشهري الأولى، فخاف زوجي اخباري باستشهاده، لكني علمت لاحقا أنه مصاب، ذهبت إلى بيتنا وكانت هناك حشود من الناس، أصابني انهيار عصبي لم أصحُ منه إلا في اليوم التالي، كان لدي أمل أن يعود من الإصابة، لكنه ذهب شهيداً.
وبينت: كان أنطون مندفعا دائما في مقاومة الاحتلال، وفي طليعة المظاهرات والصفوف الأولى من المواجهات، كانت والدتي قوية يوم استشهاده، أما والدي فكان متعلقا بنا بطريقة كبيرة، لذا كان حزنه الأكبر فينا.
وعن أيام المطاردة، روت عواطف: جاء مرة للاستحمام في البيت، فحضر الجيش إلى الحارة، ودائما كان هناك من يتابع له تحركاتهم، في تلك اللحظة كان يحمل منشفة ويستعد لدخول الحمام، وحين علمنا باقتراب الجيش من البيت انتقل أنطون سريعا إلى منزل جيراننا، هناك قام بالاستحمام، بينما كان جنود الاحتلال على بعد أمتار يبحثون عنه في بيتنا.
وتذكر، أنه في إحدى المداهمات قام ضابط اسرائيلي بمسك شقيقها عاطف من عنقه وشده إلى الحائط صارخا في وجهه: "انت أخوه الكبير، لازم تقوله يهدى ويسلم حاله. لوينته أنطون بدو يضل مجننا ودايرين وراه".
كان أنطون مثقفا، بمعنى المثقف في ذلك الوقت، في ثمانينات القرن الماضي، حيث القراءة عادة يومية، والنقاش في حلقات اسبوعية بمثابة جامعة، والمكتبة ضرورة في البيت.
متمسكاً بشدة، بكتبه المتنوعة خاصة السياسية، لدرجة أنه يرفض أن يمسها أحد ولا حتى أهل بيته، الذين كانوا يسطون على مكتبته في غيابه، ليقرأوا جديدها. وكان مميزاً بخطه الجميل، وظفه لكتابة بيانات الانتفاضة وخط الشعارات الوطنية على الجدران.
عاشقاً بلا حد لغسان كنفاني، هذا الحب دفعه لتشكيل "كتائب الشهيد غسان كنفاني"، التي سيختار لها، وسيظهر بتاريخ 11-12-1991 في تظاهرة ضخمة في بيت ساحور، ليهدر بصوته الجهور: ونعاهد دماء الشهداء، أن هذه المسيرة، حتى تحقيق كامل أهدافنا الوطنية، ونعاهدكم بأننا لن نتنازل أبداً ولن نساوم أبداً وسنبقى دائما في الخطوط الامامية.
اعتقل للمرة الاولى في 24-8-1985 وهو في سن الـ15، وحكم عليه الاحتلال بالسجن لمدة عشرة أشهر، أمضاها في معتقلي المسكوبية والدامون وسجن رام الله المركزي.
اعتقل في المرة الثانية في 10-4-1988، وحكم عليه الاحتلال بالسجن لمدة ستة أشهر أمضاها في سجني الظاهرية وأنصار "النقب".
في أيلول 1989 أصبح مطاردا من قبل الاحتلال، فاقتحم أكثر من 200 جندي ضاحية الاسكان في بيت ساحور حيث منزل عائلته، في محاولة لاعتقاله، لكنه نجا من محاولة الاعتقال، قبل أن يقع اعتقاله الثالث في 22-4-1990، ويتحرر في 10-9-1990، وتستمر مطاردته حتى استشهاده في 2 أيار 1992.
في اليوم الثالث لعزاء أنطون، حضر القائد الوطني فيصل الحسيني معزياً، وألقى كلمة أمام الحشود الغفيرة، مما جاء فيها: في النهاية ليس لنا إلا القتال، آمنوا وصدقوا هذه المعركة لن تحسم إلا على الميدان، لن تحسم إلا على دماء شهدائنا، تلك الأيادي الموحدة، تلك الصدور الشجاعة والمقاتلة والمستعدة هي التي ستحقق النصر.
بعد الجنازة المهيبة لأنطون، فرضت قوات الاحتلال منع التجول على بيت ساحور لثلاثة أيام، عقابا للجماهير التي خرجت لتودعه وتجوب به شوارع بيت ساحور.
كان أنطون أحد النشطاء الفاعلين في العصيان المدني في بيت ساحور، حين لاحقت حكومة الاحتلال (18 بقرة) من بيت لبيت وأصدرت أمرا عسكريا بإلقاء القبض عليها، وشاركت مروحيات أباتشي في البحث عنها، وفرضت حصارا استمر عدة أشهر (16-7 إلى 21-9 1988) من أجل القضاء على تعاونية الأبقار التي ساندتها زراعة الحواكير والبساتين، وعمل منظما للجان الشعبية، والزراعية والصحية والتعليمية، وعدم انتشارها في تجمعات فلسطينية أخرى كانت تسعى لتحقيق جزء من الاكتفاء الذاتي.
في تلك المرحلة النضالية الباهرة من تضحيات بيت ساحور والتي أصبحت أنموذجاً مقاوماً لا تذكر الانتفاضة الأولى إلا ويذكر، سلم أكثر من 1300 مواطن من بيت ساحور بطاقات هوياتهم للاحتلال في تصعيد لعصيانهم المدني، الذي قوبل بحصار مشدد على المدينة لعدة أشهر، تخلله فرض نظام منع التجول والاعتقالات والمداهمات اليومية، (كان العصيان في مرحلتين تموز 1988، ومن 21 أيلول 1989 حتى بدايات تشرين الثاني 1989) استولى أفراد الضريبة وجنود الاحتلال على آلات المصانع وبضائع المحال التجارية وأثاث المنازل والادوات الكهربائية والمركبات وقطعت الكهرباء والماء وخطوط الهاتف، دون أن تثني هذه الممارسات الهمجية أهالي بيت ساحور عن ثورتهم التي انتشرت أخبارها في كل العالم، ما دفع وزير جيش الاحتلال آنذلك "اسحاق رابين" شخصيا لزيارة البلدة وتهديد أهلها.
في عام 1993 صدر عن الشهيد كتاب، بعنوان: "دروب الأحرار"، جاء في تقديمه الذي ظل كاتبه أو كتابه (سريين): "اعذرونا إذا حبسنا عنكم بعض الأسرار، إن سر النضال الثوري لا يسمح أن نقول كل شيء عن الشهيد.
إن تسعة أعشار الثورة في تاريخ الشهيد قد رقدت معه في قبر البطولة.
_
ي.ن/ م.ل